قبل عام كتبنا عن اجتماع غير معلن تم بين سليماني وقيادات سنية في العملية السياسية في العراق، أبلغهم فيه أن خطة تأمين بغداد هي جزء من الأمن القومي الإيراني.
وبحسب أحد الحاضرين في هذا الاجتماع، فإن سليماني رسم على الخريطة حدود المناطق التي سيعمل مع ميليشيات الحشد الشعبي وقوات الحكومة على طرد تنظيم الدولة منها، وكانت المحاور الثلاثة تضم بعقوبة شرقا، وتكريت وقاعدة سبايكر شمالا، والفلوجة حتى الحبانية غربا.
الاجتماع حضره قادة من "الحزب الإسلامي العراقي" فرع الإخوان المسلمـــين في العراق، الذين ينكر ممثلوهم اليوم في الحكومــــة العراقــــية أي دور للحشد الشعبي في عمليات الفلوجة، وكــــأن حكــــومة بغداد التي يشـــاركون فيهــــا ليســت بقيادة زعماء المليشيات الشيعية أنفسهم وأحزابها الرئيسة: "الدعوة"، "المجلس الأعلى الإسلامي" و"الصدريين".
نجح سليماني في إنجاز المرحلتين الأولى والثانية من تأمين العمق الإستراتيجي لبغداد، في ديالى تضافرت تكوينات قراها المختلطة بين الشيعة والكرد الفيليين مع جهود مليشيات هادي العامري التي تحولت إلى مجازر تطهير ضد قرى العرب السنة، كانت إحداها مجزرة جامع مصعب، لتنجز مرحلة ديالى بسرعة نظرا للتركيبة السكانية المختلطة التي لا تشكل بيئة مريحة لتنظيم جهادي سني.
في تكريت وبيجي استغرقت العمليات عدة أشهر، ونجح تنظيم الدولة في اســتعادة بيجــــي من الحشـــد الشعبي وقوات الحكومة مرتين، قبل أن يفقدها في المرة الأخيرة، ويتركز الآن في سلسلة جبال حمرين، التي اتخذها مفصلا يطل على خطي التقدم نحو الشمال حيث الشرقاط، ونحو شمال الشرق، حيث الحويجة.
وصعودا نحو الشرقاط والقيارة، بدأت تتعقد مهمة الحشد الشعبي، فهي أولا بعيدة عن بغداد، ولم تعد أولوية قصوى ضمن خطة تأمين العاصمة، كما إن تلك المنطقة بين بيجي وجنوب الموصل ليست قريبة من أي مناطق ثقل سكاني شيعي يوفر بيئة دعم ديمغرافي لقوات الحشد الشعبي، أو قوات الحكومة المرتبطة بقيادة شيعية وحكومة تسيطر عليها الأحزاب نفسها التي تقود الحشد.
بالإضافة إلى أن تلك المنطقة تدخل ضمن محيط كردستان، لذلك تجد الأكراد أكثر تحسسا وتحسبا من مشاركة الحشد الشعبي في معارك جنوب الموصل، خصوصا القيارة صعودا، وهو ما سيكون في مصلحة التنظيم، لأنه بات من الواضح أن أكثر القوى الفاعلة في محاربته هي المليشيات الشيعية، بينما تبقى القوات الكردية، رغم الدعم الأمريكي الفائق لها، أقل قدرة على المواجهة وتقديم أعداد كبيرة كضحايا في معارك في مناطق عربية سنية كالموصل، لا يراها الأكراد أولوية تستحق آلاف الضحايا من أبنائهم، أما قوات الصحوات السنية فهي هزيلة لا تمتلك لا عقيدة قتالية ولا دعما شعبيا حقيقيا في ظل حرب أهلية طاحنة.
في الفلوجة، تتجه المعركة لصالح قوات الحشد الشعبي، حتى وإن تمكن تنظيم الدولة من الصمود لأسابيع، فالمدينة محاصرة بالكامل، ولا خط إمداد قريب يمكن أن يصلها سوى من الرمادي، التي يسيطر عليها الجيش العراقي، ولعل التنظيم يأمل في تكبيد القوات المهاجمة خسائر كبيرة في شوارع وأزقة الفلوجة، التي أذاقت الأمريكيين المرارة في معركتي 2014، ولكنه لا يبدو قادرا على فك حصار المدينة، أو تجنب مصير بيجي وتكريت والرمادي في نهاية الأمر، خصوصا وأنه لا يبدو أن ثمة خرقا مهيئا في الأفق يمنح الفلوجة فرصة للنجاة من طوقها، إلا إذا شن التنظيم هجمات تقلب الموازين في شمال الرمادي وفي جزيرة سامراء لمنح الفلوجة خط إمداد دائم يكفي لإدامة المقاومة، ولكن لا يبدو هذا الأمر يسيرا حاليا.
ولذلك، وفي ضوء هذه المعطيات، فإن بقاء مقاتلي تنظيم الدولة في الفلوجة للقتال في شوارعها لأسابيع مقبلة يمثل موقفا معنويا رمــــزيا أكثر منه ذا جدوى عسكرية، خصوصا في محافظة كالانبار تقطعت أوصال مراكز التنظيم فيها، وكما عاد التنظيم للفلوجة عام 2013 قبل استعادة الموصل حتى في 2014، فإنه وبالتأكيد سينتظر الفرصة المواتية لاستعادة قوته في الفلوجة حتى وإن بعد سنوات، كونها المدينة ذات المكانة الرمزية الكبرى للعرب السنة والجهاديين في العراق، إلى ذلك الحين سيحاول التنظيم تحصين نفسه أكثر في محيط الموصل، مركزه الأقوى حاليا في العراق، كما سيعمل على الحفاظ على مواقعه في سوريا التي تبدو معاقله فيها مهيأة أكثر ولو نسبيا للمطاولة أكثر من العراق.
المصدر|العصر