نطلق اليوم الحزمة الثانية من العقوبات على إيران، والتي تعد الأقسى من نوعها في الظاهر، نظراً إلى ما تشمله من استهداف لقطاعات الاقتصاد الحيوية، وفي مقدمها الطاقة والنفط، بالإضافة إلى شركات تمويل الموانئ وقطاعات الشحن وبناء السفن وشراء المنتجات البيتروكيماوية.
وربما اعتقدت إيران، في سنوات الاتفاق الماضية، أنها انتهت من صور التحايل على العقوبات النفطية المفروضة عليها، فقد رفع الاتفاق الذي وقعته مع ست قوى عالمية في عام 2015 معظم العقوبات الاقتصادية مقابل فرض قيود صارمة على برنامجها النووي. ووعد الرئيس الإيراني، حسن روحاني، شعبه بفيض من الاستثمارات وفرص العمل الجديدة، لكن بدلاً من ذلك، حصلوا على دونالد ترامب، الذي وصف الاتفاقية النووية بأنها "أسوأ صفقة على الإطلاق". لقد سحب أمريكا منها في مايو وأعاد فرض بعض العقوبات في أغسطس. وفي الرابع من نوفمبر فرض العقوبات على صناعة النفط الإيرانية الهامة.
وفي هذا، كتبت مجلة "إيكونوميست" البريطانية أنه في المرة الأخيرة التي فرضت فيها أمريكا العقوبات النفطية، تراجعت صادرات إيران من 2.5 مليون برميل في اليوم في 2011 إلى 1.1 مليون برميل في اليوم بعد ثلاث سنوات. ولا أحد يعرف كم ستتراجع هذه المرة. وانخفضت بنحو الثلث منذ بلوغها ذروتها في شهر أبريل عند 2.8 مليون برميل في اليوم. وتوقفت كوريا الجنوبية واليابان عن شراء النفط الإيراني، كما خفضت الهند وارداتها. ويصعب توقع الأمر مع الصين، وهذا جزئياً لتحايلها. وقد نقلت سفن شحن ملايين البراميل للتخزين في انتظار المشترين في المستقبل، وقد تغريهم إيران بعرضها بسعر مخفض.
لكن بحلول نهاية العام، ستكون مبيعات النفط الإيراني على الأقل 1 مليون برميل في اليوم دون ذروتها، ويمثل النفط ما يقرب من 70٪ من صادراته ونصف إيرادات الحكومة. والاقتصاد الإيراني ضعيف، وارتفع التضخم إلى 15.9٪ الشهر الماضي والعملة في انحدار، وتندلع الإضرابات والاحتجاجات يوميًا. وسار سائقو الشاحنات من العمل في سبتمبر لشكواهم من ارتفاع التكاليف. نظم المعلمون اعتصامًا في وقت لاحق.
وعلى الرغم من الاضطرابات الاقتصادية، فإن إيران لم تستأنف عملها النووي. وبدلاً من ذلك، فقد ناشدت أوروبا على أمل أن تساعد الأطراف الأخرى في الصفقة على تجاوز العقوبات. ففي شهر أغسطس، أصدر الاتحاد الأوروبي "لائحة المنع" التي تمنع الشركات الأوروبية من الالتزام بها. كما ناقش قادة الاتحاد الأوروبي إنشاء مركز لتبادل المعلومات للتعامل مع التجارة مع إيران باليورو. وهذا من شأنه أن يسمح للشركات بتجاوز البنوك الأمريكية، وبالتالي العقوبات الأمريكية.
هذه الجهود تبدو جيدة من الناحية النظرية، لكن يجب ألا تتوقع إيران أنه يمكن تحقيقها عمليا. ستتجاهل الشركات الأوروبية لائحة المنع، وقد انسحبت شركة "توتال" الفرنسية من صفقة لتطوير حقل الغاز الرئيس في إيران، ولن تقوم شركة "إيرباص" بتسليم أعداد كبيرة من طائرات الركاب. ذلك أن التهديد بفقدان إمكانية الوصول إلى الأسواق الأمريكية والنظام المالي الأمريكي كبير جدا. ولا توجد دولة عضو في الاتحاد الأوروبي مستعدة لاستضافة غرفة "المقاصة" المقترحة. ويجب على إيران ألا تبالغ في تقدير الدعم الذي تتمتع به في أوروبا.
وستتخلى فيديريكا موغيريني، رئيسة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، التي دافعت عن الصفقة النووية، عن منصبها في العام المقبل. ودعا مسؤولون دانماركيون إلى فرض عقوبات على إيران بسبب مؤامرة مزعومة لاغتيال معارض إيراني في الدنمارك.
تريد كوريا الجنوبية واليابان، من بين دول أخرى، استمرار الإعفاءات الأمريكية في شراء بعض النفط الإيراني على الأقل. ويريد صقور في واشنطن أن يستبقوا ذلك بإجبار إيران على الخروج من مجتمع الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (سويفت)، المركز العصبي للنظام المالي العالمي. وإذا خسرت الوصول، كما حدث في عام 2012، فسيتعين على المشترين مقايضة النفط الإيراني أو الدفع نقدًا. وأكبر زبون (للنفط الإيراني) هي الصين، يسعدها القيام بذلك. ففي خلال الجولة الأخيرة من العقوبات، بادلتها بسيارات "جيلي" وسلع استهلاكية أخرى مقابل النفط. وفصل إيران عن "نظام سويفت" سيؤذي في الغالب الإيرانيين العاديين بجعل التجارة المشروعة أكثر صعوبة.
لن يدفع ترامب صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر، كما يأمل، لكنه سوف يلحق بها الألم. السؤال هو ما يأمل في تحقيقه، إذ العقوبات أداة وليست إستراتيجية. كان باراك أوباما قد أوضح أنه يريد التوصل إلى اتفاق نووي، يجادل المنتقدون بأن تركيزه ضيق جدا، ولدى ترامب مشكلة معاكسة. يملك وزير خارجيته، مايك بومبيو، قائمة أمنيات لأي اتفاقية مستقبلية، وهو يطلب من إيران ليس وقف برنامجها النووي، وفقط، ولكن أيضا وقف اختبار الصواريخ الباليستية وسحب قواتها من سوريا والتخلي عن الوكلاء الإقليميين، مثل حزب الله اللبناني.
وإذا أخذنا هذا الأمر معاً، فإنه يطالب إيران بتغيير مذهبها الأمني الكامل بدعم الميليشيات الشيعية، ولكن إيران متمسكة بموقفها على الرغم من عقود من الألم الاقتصادي، وليس لديها حافز كبير للتنازل في ظل حكم رئيس ترى أنه عازم على تغيير النظام.
ترامب مقتنع بأنه يستطيع التوصل إلى صفقة أفضل من سلفه، لكن مع من؟ لقد أفقد روحاني مصداقيته، وسيترك منصبه في العام 2021. وإذا كانت إيران لا تزال تخضع لعقوبات قاسية، إلى ذلك الوقت، فقد يحل متشدد مكانه. وإذا كانت مضخات النفط لا تزال معطلة، فقد تعود أجهزة الطرد المركزي إلى وضعها الطبيعي.
وقد أبلغ وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، صحيفة "يو أس توداي" في مقابلة نشرتها اليوم، أن اتفاقا نوويا جديدا مع الولايات المتحدة ممكن حال تغيير واشنطن نهجها، وأضاف أن بلاده منفتحة أمام حوار جديد بشأن تقليص برنامجها النووي "إذا كان هناك أساس لمحادثات مثمرة"، مستدركا، أن "الثقة المتبادلة ليست شرطا لبدء المفاوضات، وإنما الاحترام المشترك" في إشارة لانفتاحه على مفاوضات جديدة مع واشنطن.
(العصر)